الفصل التاسع عشر
("طرق السياسة واحدة وان اختلفت المنهجيات والتوجهات ")
كنت أقود سيارتى بعد انتهاء موعد العمل متجهًا لتناول العشاء مع الأصدقاء بمنزل أبو فادي؛ عاد من السفر وأصر على دعوة شلة الكورنيش كعادته كل حين، متجنبًا زحام طريق سليم سلام اتجهت يميناً إلى طريق بشارة الخورى، يتغير اسم الشارع على امتداده ليصبح؛ 22 نوفمبر، جمال عبد الناصر، الإمام الخمينى، حافظ الأسد، على التوالى، حتى يلتقى بطريق صيدا-بيروت السريع، مرورًا بمطار رفيق الحريرى حتى الوصول إلى عرمون، ابتسمت من دلالات تتابع الاسماء لذات الشارع، خلف كل اسم حكاية سياسية؛ أفكار ومعتقدات، مؤيدون ومعارضون؛ طرق السياسة واحدة وان اختلفت المنهجيات والتوجهات.
طردًا للملل أدرت الراديو، انبرى صوت المذيع معلقًا على أحداث الوطن المتورم سياسة، الملتهب دائمًا وأبدًا، لا تكف السياسة عن صخبها، تيارات وأحزاب، سنة وشيعة، دروز وموارنة، رماد السياسة دقيق بيروت وعرقها خمرها، "لا يتطلب الأمر مزيدًا من التوتر، يكفى ما حدث اليوم"، تمتمت في نفسى وأدرت المؤشر إلى قناة أغان، ورحت أدندن مبتسمًا مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، (جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل)، ارتسم وجه مايا أمامى؛ ما زالت الأغنية تحتفظ بطزاجتها وحضورها رغم مضى سنوات طويلة.
يقيم أبو فادي في عرمون خارج بيروت بنحو خمسة وعشرين كيلومترا؛ هربًا من زحامها وضجيجها والتماسًا للهدوء، في العادة يحضر جلسة الكورنيش صباحات يوم الجمعة فقط متى نزل بيروت عائدًا من أسفاره الكثيرة.
يهلُ علينا بجسده الطويل الممتلئ كما المحمل على الجمل فنعرفه من بعيد، يغطى رأسه شعر رمادى كثيف ويرتدى نظارة طبية أنيقة. لحضوره طعم خاص؛ عقل منفتح على العالم، ورؤية مختلفة، تدهشنا تعليقاته، مُستثمر جَسور لا يخشى الخسارة؛ كسب أكثر مما خسر، كريم لا يتردد في دعوة أصدقائه بمناسبة ومن دون مناسبة؛ عادة على الإفطار، وأحيانا على العشاء.
يوقف سيارته على الكورنيش بمحاذاة سيارة شفيق مُضيئًا لمباتها الصفراء، ثم يفتح بابها الخلفى وينادى علينا طالبًا المساعدة، فنتدافع إليه هاشين باشين ترافقنا تعليقات مرحة على كرمه مع بعض من غمز ولمز لطيف على الحاج سعيد حين يحضر علبة بسكويت أو شيكولاتة ويوزعها على الحضور مختتمًا عمله الطيب بالترويج لبضاعته مؤكِدًا في مشهد تمثيلي، أنها صناعة سويسرية فاخرة، والكمية محدودة وأسعارها تنافسية، فنغرق في الضحك، ويعلق شفيق من بين ضحكه بقصة رجل يهودى بخيل توفى ابنه فنشر نعيه في الجرائد؛ "كوهين .. ينعى ولده ويصلح ساعات".
- "لم لا تأكل؟"،
سألت أبو فادى بعد ما رأيته مكتفيًا بالنظر إلينا يعلو وجهه ابتسامة رضا، يُنقل عينيه بين الجالسين والبحر حينًا، والسيارة من حولنا حينًا آخر، ممسكًا بيده قطعة صغيرة من طعام بينما لا تفارق يسراه كوب القهوة يملأها كلما فرغت، سارع الحاج سعيد معلقًا دون أن يفارقه انهماكه في الطعام أو يرفع وجهه عن الطبق المستقر في يسراه أسفل ذقنه وأعلى كرشه المدور، بينما تتحرك يمناه حركة آلية بين الطبق وفمه،
- بدك تخلص منا يا هارون الرشيد .. الأكل ده مسموم
قالها وانفجر ضاحكًا، فعلق شفيق
- بيكَفىِ ... سيب الطبق وكفاية كده
أجاب ويمناه تواصل حركتها الميكانيكية،
- ولو ...
عقب أبو فادى،
- بالهنا ..
- قول لي يا أبو فادى، كل مرة تعزمنا تجلس هاى الجلسة وتتفرج علينا
- سعادتى في سعادتكم
قال شفيق ماطًا الحروف كعادته،
- يسلموا
- ....
اعتاد أبو فادى هذا الفعل واعتدناه منه، يختزن في ذاكرته المشاهد والمواقف والتعليقات، ثم يجترها كجمل صبور في غربته. لطالما رأيته على النقيض منى، فبينما يجسد هو نموذج الرجل القادر على تحقيق التوازن في حياته العملية والاجتماعية، أجسد أنا نموذج الفشل، في الزواج والحب، بعدد نجاحاته كسب بلادًا، وبعدد خيباتى خسرت مُدنًا بأكملها.
تقيم زوجة نضال، أو أبو فادى كما يكنى نسبة لإبنه البكر، في بيروت ويتعلم أولاده في أوربا، بينما يتنقل هو في أسفاره بين الصين والسودان مرورًا بلبنان، لم تنسجم زوجته مع مناخ الإقامة في السودان فآثرت العودة إلى لبنان، فيما مضى هو ينمى تجارته ويتوسع فيها متخذًا من السودان قاعدة للزراعة ومن الصين مركزًا للتصنيع والتسويق، موزعًا وقته بين البلدان الثلاث.
سمحت الرحلة الطويلة من بيروت إلى شنغهاى أن يتشعب الحديث مع الراكبة بالمقعد المجاور، كانت بولينا، وهذا هو اسمها، آنذاك قد تجاوزت الخامسة والثلاثين بقليل وتشغل منصبًا كبيرًا بإحدى شركات الأعمال الإليكترونية الدولية، أُعجب بثقافتها وشخصيتها وحضورها، فيما وجدت فيه رجل أعمال مغامر لا يخشى الأسواق ولا تقلباتها، رجل تبعث فيه المغامرة روح الشباب رغم اقترابه من الستين، فانجذبت إليه وانجذب إليها.
تبادلا أرقام الهاتف قُبيل هبوط الطائرة واستأذن في دعوتها للعشاء خلال الأيام التى ستقضيها في شنغهاى، فشكرته مؤكدة ترحيبها إن سمحت ارتباطات العمل.
مضى كل منهما إلى حال سبيله، هى إلى فندقها في المدينة العملاقة كتنين أسطورى، وهو إلى شقته الصغيرة الأقرب إلى علبة كبريت، على حد قوله، كلما قارنها بفيلته بعرمون أو بيته الكبير ذي الحديقة الشاسعة في مدينة سواكن بالسودان.
وفى اليوم التالى، ذهب إلى مكتبه وراح يراجع ما مضى من أعمال تابعها، خلال غيابه، بالهاتف حينا وبالبريد الإليكترونى حينًا آخر، ثم تنقل كعادته بين العمال في المصنع والموظفين في المكاتب، يتفاعل معهم كواحد منهم، ويتبادل معهم كلمات قليلة باللغة الصينية تبعث فيهم شيئًا من مرح وبهجة وترفع كثيرًا من روحهم المعنوية.
وفى نهاية الأسبوع تذكر جارته بالطائرة، ودعوته إياها للعشاء، أخرج هاتفه من جيبه، دون الحروف الأولى من اسمها، هز رأسه وضغط بسبابته على الرقم، بعد قليل جاءه صوتها من الجانب الآخر، ذكرها بنفسه، فأسرعت بالرد،
- طبعا متذكرة .. حضرتك لا تنسي
- ذوق كثير
- ميرسي
- اتصلت أؤكد على دعوة العشاء، هل يناسبك الليلة
- إذا ممكن مساء الغد يكون أفضل
- ممتاز .. بمرق عليك بالسيارة ع السبعة .. بيكون مناسب؟
- ممتاز
- اتفقنا .. تحياتى
- تحياتى
- ...
قضى أبو فادى مساء تلك الليلة يراجع بعض أعماله ويتواصل، مستفيدًا من فارق التوقيت؛ بموظفيه في السودان وأسرته في لبنان، فيما ارتدى صباح اليوم التالى، كعادته في صباحات إجازاته، زيه الرياضى وتمشى ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم عرج إلى أحد محلات الأكل اللبنانية المنتشرة في المدينة ليتناول فطوره، وتناول كوبًا أو كوبين من القهوة ثم عاد إلى بيته واستمتع بدش دافئ، لكنه في هذا اليوم غير عاداته.
مر على أحد محال الحلاقة فشذب شعره وهذبه، ثم وضع له الحلاق بعضًا من أخلاط على بشرته فسقاها نضارة وحيوية، مر بعدها بأحد المراكز الصحية فأخذ حمام بخار ودلك جسمه فأحس كأنما يعاد رص عظامه وتشكيل خلاياه من جديد، استرخت عضلاته، ودبت في جسده حيوية ونشاط افتقدهما منذ فترة، ثم غادره مرتديا بذلة كاروه كحلية اللون بخطوط بيضاء رفيعه، فيما أبقى قميصه مفتوح الأزرار مُحيطًا عنقه برباط حريرى سماوى اللون تزينه بعض فراشات سوداء صغيرة، ثم استقل سيارته إلى الفندق حيث تقيم بولينا.
قابلته مرتدية فستان سهرة أسود كليل لم تر سماءه نجومًا قط فيما بدا كتفاها المدملكان الأبيضان العاريان كشلالي نور متدفق، يزين جيدها عقد من لؤلؤ وتحيطها بلورة خفية من عطر سحرى صنعته إحدى جنيات الإغواء. شمل وجهه سرور ومد يده فتناول كفها وقبلها، وأطرى على أناقتها، ثم سألها وهو يتحرك بالسيارة من أمام الفندق أى طعام تفضل، بحرية أم لحوم أم مطعم صينى، فأشاحت بيديها وهى تضحك قائلة،
- كفانى طعامٌ صينى، أأومن بتنوع الثقافات ولكنى أؤكد صعوبة التفاعل معها
فرد مبتسمًا،
- إذًا أيهما تفضلين، أسماك أم لحوم؟
فاختارت الأولى، فانطلق نحو مطعم (جامبو سي فوود)، الشهير بأصنافه البحرية من القشريات المتميزة مع خدمة طهيها أمام الزبائن.
جلسا متقابلين، فيما راح النادل يضع أمامهما أطباق المشهيات ويصب في كؤوسهما بعضًا من عصير، كانت بولينا مزيجًا ثقافيًا وبشريًا في آن؛ أمها من أمريكا اللاتينية، فيما ترجع أصول أبيها إلى المغرب، تربت في مونتفيديو؛ عاصمة أوروجواى، ثم رحلت مع والديها إلى فرنسا للإقامة والعمل؛ وهناك درست إدارة الأعمال بمدينة (ليل) ثم التحقت بعدة وظائف في مؤسسات مختلفة إلى أن انتهى بها الأمر في شركة الإليكترونيات.
لسبب أو لآخر، تقارب الإثنان، وهل للقرب أسباب ظاهرة، لو دققت النظر في الأسباب الظاهرة لقربى أنا ومايا، لما وجدت سببًا جليًا نتفق عليه، وإن تركت الظاهر إلى الباطن لوجدت قلوبًا منكسرة وجراحًا غائرة في فيافى الروح وخيبات ترتفع راياتها فوق قلاع الحب المحطمة، وهو ما جمعنا وألف بين قلبينا، وكذلك حال كل المحبين، يجمعهم الباطن لا الظاهر، الخفى لا الجلى، ونضال وبولينا ليسا سوى إثنين ينطبق عليهما ما ينطبق على أمثالهما.
فكلاهما يحمل روح المغامرة ونفسًا قلقة اعتادت التجول والسياحة في رحاب الكون، جاءا من ثقافة عالمية؛ مزيج بين شرق وغرب، أيضًا يحمل كلاهما روحا إنسانية حيرى؛ تبحث عن نصفها الآخر، حتى وإن كان متزوجًا مثل نضال، فلقاءاته بزوجته صارت بعيدة متقطعة ترجع بعضها لأسباب شخصية وبعضها لكثرة الانشغالات، أما بولينا فكان يحدوها الأمل في تكرار التجربة والعبور بها إلى شاطئ الأمان، عوضًا عما كابدته من آلام.
حكت له عن حياتها الخاصة، عن زوجها السابق، وعن والديها وأقاربها، حكت كما لم تحك من قبل، أحست أنها كانت تبحث عنه وأحس أنه كان يبحث عنها، كشفت له مساحات من حياتها الشخصية وكشف لها مساحات أكبر من حياته الشخصية، أحسا بطمأنينة وراحة. أمام الفندق شكرته من كل قلبها على السهرة الجميلة التى لا تنسى، طلبت منه أن يبقى على اتصال، فأكد لها وعلى شفتيه ابتسامة أنهما سيلتقيان قريبًا.
لم يكن أمامها سوى الغد، تجتمع فيه مع ممثلى إحدي الشركات، لتنطلق في المساء عائدة إلى لندن، حيث مقر عملها، عرض عليها توصيلها للمطار، فشكرته، قبل يدها، فمالت عليه وقبلت وجنتيه، فقبل يدها مرة أخرى، ثم مضت نحو مدخل الفندق فيما بقى واقفًا يتابعها حتى غابت عن ناظريه، وما عاد باستطاعته متابعتها ولا رؤية وجهها في التفاتاتها المتتابعة نحوه في طريقها لداخل الفندق.
عاد أدراجه إلى شقته وأخدود وحدته يزداد عمقًا وإظلاما، بدل ملابسه؛ ألقى بنفسه على السرير يفكر في بولينا والسهرة الجميلة، وتمنى لو أنها صحبته، لكنه ابتسم نصف ابتسامة وتمتم (إن غدًا لناظره قريب)، ثم أغمض عينيه وراح في سبات طويل.
فى الصباح؛ انطلق إلى مكتبه نشطًا مسرورًا، عرضت عليه سكرتيرته جدول أعماله المتضمن اجتماعات مع رؤوساء العمل وممثلى شركات أجنبية، قرأ الأسماء بعناية؛ قفزت بولينا إلى ذاكرته، تابع أعماله وموظفوه، حضر بعض اجتماعات داخلية ناقش فيها عزم الشركة تطوير خطوط انتاجها بماكينات أحدث مع زيادة نسبة الاعتماد على الروبوتات لتصبح خمسون بالمائة في عمليات التصنيع ارتفاعًا من عشرين بالمائة، بعد قليل يلتقى بمسئول إحدى الشركات الدولية المتخصصة في هذا المجال، يليه اجتماع داخلى يتخذ فيه قرار مع أى الشركات يتعاقدون، فقد قابل خلال العشرة أيام التى قضاها في شنغهاى ممثلى أكثر من ست شركات، وآن أوان الحسم.
استأذن نضال، دقائق قبل الاجتماع دخل فيها حمامه الخاص، ألقى نظره سريعة على هيئته، ضبط ربطة عنقه ورش عطره المميز، عود كمبودى معتق يمتد نطاق تأثيره بعيدًا، أغلق زرار سترته ومضى نحو قاعة الاجتماعات هادئًا، رأى من خلف الجدار الزجاجى المغبش خيال نائبه ومسئول الهندسة بالشركة فيما يجلس قبالتهم وفد الزوار، ، فتح الباب بهدوء ودخل محييا يعلو وجهه ابتسامة رجل يثق في قدراته ويعتز بنفسه، اتجه صوب ممثل شركة الإليكترونيات ومد يده مصافحًا، فيما انعقد لسان بولينا، اتسعت عيناها، تقدم بهدوء وقدم نفسه،
- نضال، مالك الشركة
ثم أردف ضاحكًا،
- هلا قدمت نفسك؟
وبينما كانت كفها تنام في كفه، ندت عنها شهقة وغطت فمها بيسراها، وهزت رأسها في الاتجاهين، فعلقَ مبتسمًا،
- ألم أقل لك أن الدنيا صغيرة، وأننا سوف نلتقى سريعًا،
عقبت وهي تضبط كرسيها ليواجهه على الناحية الأخرى من الطاولة،
- لم أتخيل أن نلتقى ثانية بهذه السرعة
ثم سألته وقد استعادت توازنها،
- منذ متى وأنت تعلم أننا سنلتقى اليوم؟
- ............
حكى لها أن سكرتيرته عرضت عليه قائمة مواعيده واجتماعاته خلال الأيام التى سيقضيها بالصين دون ذكر الاسم، وتمنى أن تلعب الصدفة لعبتها وأن تكون جارته في الطائرة التى حكى معها ما يزيد عن ست ساعات هى نفسها ممثل شركة الإليكترونيات التى قطعت هذه المسافة الضخمة كى تقابله لمدة ساعة تعرض عليه خدمات شركتها، بحث عن الكارت الشخصى وانعقد لسانه كما حدث لها حين تطابق الاسم والوظيفة في الكارت مع بيانات قائمة حضور الاجتماع، في مساء اليوم التالى طلبها ودعاها على العشاء وكان ماكان بينهما، إلا أنه آثر ألا يخبرها بشيء حتى يراها في مكتبه.
سريعًا، استعادت بولينا هدوءها وما جاءت من أجله، فاستأذنت في عرض منتجات الشركة التي تمثلها، رغم ما غشى الجو العام من مودة وثقة متبادلة إلا أنها راحت تشرح وتعدد مزايا المنتجات، ونضال يستفسر من حين لآخر، بدا له من أسلوبها أنها صعبة المراس لا تستسلم بسهولة.
انتهى الاجتماع ودعاها إلى الغداء، ثم رافقها إلى المطار، وهناك طلب منها أن يشربا معًا فنجانين من القهوة قبل أن تدخل صالة المطار ويعود هو أدراجه إلى شقته، سمح لهما الوقت بنصف ساعة؛ تحدث فيها واستمعت إليه دون تعقيب منها، كما طلب، ودون إبداء رد فعل سلبى أو إيجابى، حكى لها عن حياته العائلية وأعماله، واختتم حديثه بطلب يدها للزواج، طالبًا منها التفكير والرد خلال مدة، تمنى ألا تزيد عن أسبوعين.
أوصلها بعد ذلك إلى بوابة الدخول، مد يده مصافحًا، فيما قبلته على وجنتيه، فقبل يدها وجبهتها، ثم مضت في طريقها. عاد إلى شقته مشتت الفكر لا يدرى ماذا يفعل، وهل صواب ما فعله أم خطأ. التقى صدفة بسيدة في الطائرة، تعشيا معًا، واجتمعا للعمل معًا، وبعدها قرر طلب يدها للزواج، رغم حيرته النفسية أحس براحة، أخرج كل ما في نفسه ولم يعد مطلوبًا منه سوى الانتظار، عاد يقود سيارته بينما يتردد في جنباتها صوت محمد عبد الوهاب شاديًا من كلمات الشاعر حسين السيد،
"يا مسافر وحدك وفايتني .. ليه تبعد عني .. ليه تبعد عني وتشغلني
ودعني من غير ما تسلم وكفاية قلبى أنا مسلم
دي عنييا دموعها .. دموعها بتتكلم ......".
مضت الأيام ثقيلة على نضال ينتظر رد بولينا، بعد عدة أيام سافر إلى السودان مارًا بلبنان في طريقه، وفى سواكن تلقى اتصالها المنتظر تخبره فيه موافقتها على الزواج، مرت بعدها الأحداث سريعًا، سافر للقائها في لندن وبعد أسابيع معدودة تزوجا وسافرا إلى جزر المالديف لأسبوع عادا بعدها إلى طريقين مختلفين، هى إلى لندن، وهو إلى الصين، هى لتقديم استقالتها وانهاء ارتباطاتها بالشركة التي تعمل بها واللحاق به، وهو لمتابعة أعماله وانتظارها لتدير معه الشركة.
مضى على هذه الأحداث أكثر من سبع سنوات وما زال أبو فادى قادرًا على الوقوف متزنًا بين أعماله وزوجتيه، له فلسفته في الإرضاء، يعرف متطلبات كل منهما ويجزل العطاء راضيًا سعيدًا بقدرته على إسعادهما ومن ثم إسعاد نفسه.
أين أنا من هذا، فلا أرضًا قطعت ولا ظهرًا أبقيت؛ تزوجت وانفصلت، اقتربت من مايا فاحترقت بنارها كما احترقت الفراشة مارى في لهيب النار، وها هي الطاولة تنقلب علينا بعد عودة زوجها، وأنا مشتت بين الاستمرار والرحيل.
أفقت من شرودى وأنا اقترب من باب الفيلا فيما لمحت سيارات من سبقنى من الأصدقاء في الوصول بالجوار. أوقفت سيارتى بمحاذاة سيارة شفيق العتيقة، وضربت جرس الباب مُلقيًا بنفسى بينهم أملاً في إغراق همومى في بحر مرحهم.
إلى لقاء في فصل جديد